الشعر في عصر صدر الإسلام
إن الشعر في عصر ما قبل الإسلام - كما مر بنا - عبر عن البيئة التي نما فيها، وعن المجتمع الذي عاش فيه، وعن نفسية الشعراء الذين صدر عنهم، وكذلك الشعر في عهد صدر الإسلام، فقد جاء تعبيراً عن نفسية قائليه وعن مدى تأثرهم بالإسلام في تناولهم لموضوعات الشعر.
فالشعراء الذين واكبوا الإسلام منذ أحداثه الأولى وعاشوها تأثروا بما خطه من خلق ديني وقيم جديدة، فتخلوا عن الفخر القائم على العصبية القبلية، والغزل الفاحش الصريح والهجاء الذي ينال الأعراض ويهتك الحرمات، وتجنبوا المديح الذي ينشأ لغرض العطاء أو العصبية القبلية، واتجهوا إلى الرسول وصحابته وقد جاء أغلب شعر هذه الفئة تعبيراً عن الأحداث الإسلامية المهمة، مثل: الغزوات، والفتوح والردة، كما جاء تناولهم للأغراض التقليدية متأثراً بالمعاني والقيم الإسلامية الجديدة شعر الغزوات والسرايا بعد أن استقر أمر المسلمين في المدينة، وأصبحوا قوة موحدة يحكمها سياج تأتمر بأمر الرسول إمامها وقائدها الذي يوجهها إلى ما ينفعها في دنياها وأخراها، بدأ المشركون في مكة يحسون بخطر المسلمين على سيادتهم ومصالحهم الاقتصادية، وأخذوا يعدون العدة للقضاء على ما رأوه خطراً عليهم ، فظلت الحروب مستعرة طوال حياة الرسول - ، المسلمون في جانب، والمشركون ومن حالفهم من القبائل في جانب آخر، وقد أطلق على هذه الحروب التي تمت في حياة النبي اسم الغزوات والسرايا. وقد عبر الشعراء المسلمون عن هذه الغزوات والسرايا بشعرهم مصورين التحامهم بالإسلام وتأثرهم به من ذلك الأبيات التي قالها عبد الله بن جحش حينما أرسله النبي على رأس سرية ليستعلموا أخبار قريش فتعرضوا لقافلة قرشية وغنموها فادعت قريش بأن ذلك كان في شهر رجب وهو من الأشهر الحرم التي يُحرّم فيها العرب القتال فنزل قوله تعالى :
(يَسْتَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدُّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ) (1).
( محمود ) ( محمد ) وهذا رأي يستحق أن تقف عنده قليلاً، أيكون الله تعالى قد ألهم عبد المطلب جد النبي ليسميه محمدا ، ربما ، ثم انظر كيف يعرف الشاعر المسند إليه باسم الإشارة ( هذا محمد - ليبين مدى علو قدره.
نبي جملة خبرية حذف فيها المسند إليه، أي هو نبي»، وكأنه أراد أن يقرنه بقوله
«أغر»، وإذا شئنا أن نتكلم بكلام النحاة نقول: إنه يجوز أن يكون قوله « نبي بدلاً من قوله «أغر» أي «أغر نبي»، «أتانا»، والضمير في قوله «أتانا» للبشر، بدليل قوله بعد يأس وفترة من الرسل، فقد يئس البشر من رحمة الله بعد أن انقطعت عنهم الرسل، وانتشرت الأوثان التي تعبد في الأرض من دون الله حتى جاء هذا النبي فأزال عنهم . اليأس، والاقتباس من القرآن الكريم هنا واضح و قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ ) لكم على فترة مِنَ الرُّسُلِ (1) فأمسى سراجا مستنيراً، وهاديا ، يهدي الناس إلى الرشاد بعد أن يئسوا وانغمسوا في ضلال الشرك .
ولك أن تلاحظ الدقة في التعبير في هذا التوافق بين قوله سراجا» والكلمة قبلها أمسى» إن السراج لا يصلح إلا للمساء. يلوح يلمع كما يلمع السيف المصقول تشبيه دقيق جميل ليس المقصود به فقط إيضاح مدى الاستنارة وإلا لكان التعبير بـ بأداة من أدوات الإضاءة أولى ولكنه إلى جانب ذلك يوح وحي بالقوة ة، إن ا نشره للحق وإزهاقه للباطل، انظر إلى قول كعب بن زهير في المعنى : الاستنارة بالسيف لا تكون فقط في بريقه ولكن أيضا في إن الرَّسُولَ لنور يستضاء به( وَأَنذَرنا نارًا، وبشر جنّة، وعلمنا الإسلام ).
مُهَنَّدٌ مِنْ سُيوفِ اللَّهِ مَسْلُولُ ثلاث جمل خبرية تلخص في براعة فائقة وفهم عميق للدين الإسلامي، الأسس التي قامت عليها الرسالة المحمدية، إنه الترهيب والترغيب اللذان ترتكز عليهما تعاليم الإسلام. وهو على الرغم من ذلك لا يتوجه بالحمد للممدوح ( الرسول ﷺ بل الله الذي أرسله، وهو نتيجة حتمية لفهم تعاليم الإسلام الذي لا يرى الفضل لأحد إلا الله، فالله نحمد). ولغة القصيدة قريبة سهلة، هي إلى الرقة والعذوبة أقرب منها إلى الفخامة والجزالة، ابتعدت عن التعقيد والغرابة وبرئت من الابتذال والإسفاف، وأكثر ألفاظها مستمدة من القرآن الكريم، المنبع الأول الذي يستمد منه الشعراء والخطباء المسلمون ألفاظهم ومعانيهم أما معانيها وأفكارها فإسلامية كلها، ولا نكاد نعثر فيها على معنى مبتكر أو فكرة جديدة، ذلك أن الدين الجديد قد أسر العقول بتعاليمه الجديدة وأفكاره النيرة فأصبحت كلها تدور في فلكه وتتسم أبيات القصيدة بالوحدة العضوية، فهي متماسكة مترابطة يجمعها التسلسل المنطقي ووحدة الموضوع أما أسلوبها في المدح فهو جديد، لا يتناول شيئاً من الصفات التي كانت تنسب إلى الممدوحين في العصر الجاهلي، ولا يتسم بالمبالغة التي كانت تتسم بها أساليب المدح في كل عصر.